النجاح الصيني لم يقم على "نموذج " تنموي، بل على "لا نموذج تنموي"، أساسه التبديل والتغيير المستمر، بما يخدم الغاية النهائية المتمثلة بإنجاز النهوض الوطني.
ليس المطلوب منّا أن نتعلم فقط هذه البراغماتية المتوجهة لهدف ثابت، إذ ثمة دروس عملية ومرحلية أيضاً. احد هذه الدروس المستفادة من نجاح "اللانموذج التنموي" الصيني، أن العرب كان يمكنهم في مطلع التسعينيات، ليس فقط إدارة موقفهم تجاه العولمة بشكل أفضل، لو أنهم أنجزوا "التنمية غير التابعة"، في مرحلة سابقة، انطلاقاً من التكامل الاقتصادي العربي الذي ظل فكرة تُطرح منذ الأربعينيات، بل أيضاً توظيف مفاعيل هذه العولمة في صالح طموحاتهم النهضوية، كما تيسّر للصين أن تفعل، حين باتت بفعل مكانتها الاقتصادية، قطباً عالمياً مرشحاً.
ذلك لم يحدث. لكن "الدرس الصيني" في الانطلاق من "لانموذج" تنموي يُنجز تنمية غير تابعة، ما يزال قائماً، شريطة تحقيق أمرين أساسيين: الأول هو وصول العرب إلى حالة ما من التصرّف على أساس "الوحدة الاقتصادية الواحدة"، والثاني هو ممارسة هذه الوحدة سيادتها على مواردها الطبيعية، فبغير هذين الشرطين لا يمكن توظيف الموارد الطبيعية العربية تكاملياً، ولا يمكن توجيه هذا التوظيف لما يخدم التنمية العربية.
تطبيق "اللانموذج التنموي" الذي قدّمته الصين للعالم، ليس متاحاً في أماكن كثيرة من العالم النامي، لا تتحقق فيها الشروط المتعلقة بالمساحة والسكان والموقع والموارد والتقارب الاجتماعي، لكنه متاح بالتأكيد في العالم العربي، فليس ثمة إذن عائق يمنع العرب من التفكير بالخطوات الأولى للنهضة، إلا غياب برامج العمل عن أجنداتهم وخططهم.
وبالطبع، فإن الأمر ليس بلا أساس، فثمة ما يُغيّب "برامج العمل" عن الأجندات العربية، سواء ما مسّ المصالح السياسية والمنافسات والمشاحنات المتّصلة بها، أو ما تعلّق بالمقارنات بين الدول العربية الغنية، ونظيرتها الفقيرة.
الأمر لا يتوقف عند التنمية، فالدرس الصيني في إنجاز النهضة، ما يزال قائماً هو الآخر، ما دامت "التنمية الاقتصادية" هي المقدمة التي أتاحت للصين الوقوف على عتبات "النهضة"، وما دام ثمة طموح لدى العرب باستعادة مشروعهم النهضوي، الذي صيغ وبدئ العمل لتحقيقه في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ثم تعطّل اعتباراً من لحظة دخول الاستعمار العالم العربي، وتخليهم عن أساسه الفكري البراغماتي الذي لا يختلف كثيراً عن أسس اللانموذج الصيني، القائل إن الحقيقة تكمن في النتائج، وتبنيهم بدلاً منه ردوداً أيديولوجية، غلّبت الوسيلة على الغاية.
لقد كانت فلسفة المشروع النهضوي العربي، التي صاغها –أول مرة- رفاعة الطهطاوي، متوافقة في روحها مع فلسفة المشروع الصيني الذي كان دينغ شياو بنغ رائده ومطلقه، فالطهطاوي لم يجد حرجاً في الدعوة للاعتبار بالتقدم الاجتماعي والسياسي الذي رآه في فرنسا، كونه يحقق مصلحة المسلمين ويساعدهم في التقدم الحضاري، ودعا إلى تقليد ما لا يخالف الشريعة الإسلامية منه، بمعنى أنه انطلق من أساس ثابت يرمي إلى النهضة، على طريق الأخذ بتجارب الآخرين، بعد جعلها مناسبة للظروف والثقافة العربيتين، في منهج براغماتي يهتم بالنتيجة لا بالوسيلة.
هذا عينه هو ما فعله دينغ، الذي اعتبر بنجاحات الاقتصاد الرأسمالي في الغرب، لكنه جعلها مناسبة للظرف الصيني، قاصداً الغاية النهائية التي هي تحقيق نهضة البلاد، مهما استلزم ذلك من تعديل للأفكار.
أثبتت الصين نجاح النهج البراغماتي الذي يقوم على أساس وطني ثابت، وفشل النهج الأيديولوجي الذي يقدّم الوسيلة على الغاية. ولمّا كان العرب تخلوا عن النهج البراغماتي في سعيهم للنهضة، وأخذوا بالأيديولوجيا، ثم راحوا يسجلون الفشل الحضاري تلو الآخر، فإن نجاحات الصين الحضارية تقدم أمامهم دليلاً على ضرورة استعادة الفلسفة الأولى لمشروعهم النهضوي، وقوامها الاهتمام بالغاية الوطنية النبيلة، وتقديمها على الوسيلة، من دون إهمال الثوابت الأخلاقية التي لا غنى عنها للنجاح.
غير أن ما يمكن أن تقدمه الصين لعالم عربي طامح باستعادة خطواته النهضوية، يفيض عن مجرد الدروس والعبر والتجارب. ثمة، في الصين، منجم من الفرص المستقبلية، لا بد أن نعيها ونحسن إدارتها، فإذا كانت القوى العظمى التي عرفناها منذ ارتطمنا بقوة أوروبا ونهضتها مع "حملة نابليون"، كلها منحازة ضدنا استراتيجياً (بريطانيا، فرنسا،.. الولايات المتحدة الأميركية)، لأسباب عديدة، فإن الصين ليست لديها مثل تلك الأسباب، ويمكن ليس فقط أن لا تكون منحازة ضدنا إذا ما صارت يوماً قوة عظمى مؤثرة، بل أيضاً أن تكون منحازة إلى صفنا، بما يوفر لنا أجواءً دولية عادلة لحل المشكلات التي ما فتئت تعيق تقدمنا الحضاري.
في هذا المجال، علينا أن نتنبه لتقصيرنا الكبير، قياساً إلى ما تفعله إسرائيل، التي أقامت علاقات عسكرية وثيقة مع الصين منذ مطلع ثمانينيات القرن العشرين، كما تحاول باستمرار الاقتراب منها سياسياً، من زاوية إدراك أهميتها المستقبلية.
وإذا كان من الصحيح القول إن العلاقات الصينية- الإسرائيلية ليست استراتيجية، ولا يمكن أن تكون بالنظر إلى طبيعية علاقة إسرائيل بالغرب، فإن تطور صلتنا -نحن العرب- مع الصين، تظل مرهونة بحسن إدارتنا لها، فليس ثمة مجال للمجاملات في مصالح الأمم.
إن التقارب العربي- الصيني الذي يُدار حالياً بمنظور التجارة والمال، قد يجلب المصالح الاقتصادية، لكنه لا يحقق مصالح استراتيجية كبرى، كتلك المتعلقة بمهمة مثل "النهضة".
ثمة حاجة إذن لإدارة العلاقة مع الصين من منظور حضاري، تنال فيه الصين مصالحها التي عندنا، لكننا ننال منها في المقابل ما يخدم نهضتنا من عوامل مادية وغير مادية.